بسم الله الرحمن الرحيم،
في هذه السلسلة {في يوم من الأيام} أكتب هنا أولى تدويناتي الشخصية بعد إنشاء المدونة بحوالي ست سنوات دون أي نشاط، أود فيها تآريخ وتحليل بعض الأحداث المهمة التي عشتها في حياتي؛ سواء أكان ذلك في بحبوحة الطفولة وغلبة القصور أو في ريعان الشباب وتغيّر الطور أو في اشتداد العود وتفلّق القشور، والجامع بين تلك الأحداث والمواقف هو تسببها بتأثير واضح وشمٍ بائن عليّ لاحقاً، وأرجو أن يكون في ذلك عظيم الفائدة وجزيل المتعة لك عزيزي القارئ.
في يوم من أيام الصيف الحار في جامعتي في الظهران شرق المملكة العربية السعودية كنت أمسح العرق وأحث الخطى إلى المكتبة المركزية المكيفة؛ وكنت قد انتهيت للتو من محاضرة للكيمياء وحان وقت المذاكرة وحل المسائل، كان عقلي أثناء السير يتساءل وهو يرى ويسمع كيف أن من حوله يتشدق بالإنجليزية ويطرب لها بل يلف نفسه بسربالها: هل أنا فعلاً محصور ومتوقف على إتقان اللغة الإنجليزية والغوص في المحيط الثقافي الأنجلوأمريكي المتغول والجارف إلى جانب لغتي وثقافتي الأم العربية؟ ألا يمكن أن توجد هناك نوافذ أخرى لثقافة ربما تكون أعقل وأكثر نضجاً وأكثر متاعاً وأثاثاً؟
كنت قد دلفت وقتها إلى الفصل الثاني من
السنة الأول فيها -عدا السنة التحضيرية- وأنا متفرغ ومتشوق لنهل وافر العلم في العلوم
الطبيعية عامة وفي تخصصي الكيمياء خاصة، كان البروفيسور الذي حاضر علينا من أصرم وأهيب من قابلت في
حياتي -وليس يسمح المقال بعرض بعض شطحات صرامته-، اكتشفت أنه قد استوفى كل تعليمه الجامعي
والعالي من جامعة هايدلبرغ على ضفاف نهر النيكار، قبل ذلك وفي الفصل الأول ورد إلي مسمعي وطرق مقلتي أسماء رواد كثر في تأسيس علم الكيمياء الحديث من الألمان، وفي الحقيقة؛ إن العلماء الألمان لم يظهروا لي فجأة؛ بل قد لاحقوني في الكيمياء منذ تعلمت قانون هوند وقاعدة
الأوف باو وموقد بنزن وحلقة البنزين لأوغست كيكوله في عمر السادسة عشرة...، كانت نار الاهتمام بألمانيا تزداد ضراوة وأذرعها تزيد انسجاراً كلما تطورت في مسار الدراسة ونما إلى علمي قانون أو تقنية كيميائية ما نشأت في ألمانيا أو بيد ألماني.
حزمت أمري في نهاية ذلك المشوار البسيط وقبل ولوجي إلى المكتبة المركزية في أن أكتشف ذلك الجوهر الخفي وأخرج من عباءة العم سام الثقيلة في آن
واحد، أريد أن أكتشف منشأ هذا التقدم والابداع عند هؤلاء وبلغتهم، كذلك كنت أريد بأي ثمن أن أحقق طموحي في التميز وقتها بتعلم لغة ثالثة لم يسبق لمن حولي أن دلج إلى أدغالها، دخلت على الأنترنت عام 2004، أدخلت بالإنجليزية (تعلم اللغة الألمانية)، ظهر لي مقال يتضمن فقط مقدمة بسيطة عن اللغة وبعض الضمائر
الشخصية في الألمانية:
(ich, du, er, sie,...)
لم أتعرف على صيغة الاحترام وقتها أو ربما لم
أعرها اهتماماً، المهم أنني دونت الضمائر بسرعة وحفظت معانيها بالإنجليزية ثم أكملت مذاكرتي.
مرت عدة شهور بعدها ثم كنت في محل للكتب فاشتريت كتاب "تعلم الألمانية بسهولة" لأسعد حيدر، أذكر تماماً تلك الليلة
التي خلوت بها مع ذلك الكتاب لوحدي وكأنه كنز وبدأت أنسخ الجمل الموجودة في الكتاب واحدة واحدة بكل صمت وأمرن يدي عليها وأتساءل عن ذلك الحرف وتلك القاعدة ومتى تستعمل...، أذكر تلك الدهشة التي بالفروقات بين اللغة الألمانية والإنجليزية في القواعد والقواعد التي لا أعلم جدوى وجودها... 😄😄😄 ، استعرت لاحقاً كتاباً قديماً من الجامعة لتعلم اللغة اللألمانية وكنت حسب السجلات ثالث من استعاره منذ تأسيس المكتبة، كان يستخدم الأسلوب القديم في الكتابة بالألمانية بل أن أسماء الأشخاص فيه مثل Hans و Martha اختفت تقريباً من الوجود!، تبع هذين الكتابين سيديهات بسيطة ومقاطع صوتية جميلة لميشيل توماس من أصدقاء علموا بشغفي؛ ثم اشتريت قاموس Collins صغير
-إنجليزي ألماني-...، كل ذلك التدفق المعرفي حصل بوتيرة سريعة.
اكتشفت لاحقاُ وجود مصادر ثقافية ألمانية أكثر غنى مثل قناة DW الألمانية ومواقع متخصصة في تعليم اللغة ومنتديات تبادل لغوي، عدا أن تقنية البودكاست التي كانت جديدة وقتها أفادتني جداً في هذا المضمار؛ حيث إن أول بودكاست أسمعه من إنتاج DW لتعلم الألمانية قد أنتج في التسعينات بشكل سهل وممتع جداً؛ فهو يعلم القاعدة النحوية في إطار قصة مسلية بشخصيات (الفتي أندرياس الحمال في فندق ومعه القزم الصغير وكلمة السر "sowieso"...) ممزوجة بكمية وافرة من البروتين الثقافي واللغوي الألماني، بدأت الجرعات الثقافية من ألمانيا تنهمر وتحتل مساحات أكبر في مخي وتسبح في مخيلتي بشكل متسارع، جرني هذا إلى التبحر في البحث عن فلسفة العادات والمذاهب والثقافات والعادات في ألمانيا، اكتشفت أن بعض العادات والصفات خاطئ بشكل كبير مثل أن الشباب ينادون أمهاتهم بالاسم الشخصي؛ والبعض موجود كما قرأت وسمعت؛ لكن ليس بالقدر والشكل الذي قد تخيلته.
كنت بجانب دراستي أراجع كتاب أسعد حيدر وأقارن بين ما أسمع وما أقرأ وما يذكره لي بعض صاحبي من كلمات ألمانية سمعوها في فيلم ما أو ما أطالعه من كلمات عابرة على باص ألماني...بشكل وصل إلى الإدمان وأصبح كتاب أسعد حيدر مليئاً بالفوائد والهوامش التي كتبتها ولم يعد يلبي حاجتي، كنت أعتني بفهم دقائق الأمور في القواعد والثقافة والمعلومات بشكل محموم وبكل ما تيسر عندي وقتها من وسائل وكأنني أجهز نفسي لأمر ما، تخرجت من الجامعة وكنت فرحاً وقتها بشكل كبير وأنا أضيف في سيرتي الذاتية
أنني مبتدئ في اللغة الألمانية وأضع تقديراً لنفسي (A1) دون أي شهادة ومدرس وسبورة...😊، كنت أعلم أنه لن يدقق أحد في ذلك في ذلك؛ فاللغة الألمانية غير
مطلوبة وغير معروفة وقتها في بلدي؛ لكن نشوتي بالتميز الشخصي في هذا السهل المترامي الشعاب والكامن تحت الضباب والغير معلوم الصعاب...كانت هي الدافع الرئيسي فيما جرى من تهور غريب وما لحق ذلك من قادم الأحداث.
كنت في الحقيقة موقناً بشكل لا ريب ولا زيغ فيه؛ أن استفتحت به من أمور ستنفعني جداً وستكون بداية لطريق طويل وشاق؛ ولم يكن لي أدنى علم وقتها بما سيحدث لاحقاً من وراء ذلك التساؤل البريء.
وللحديث عن ذلك بقية بإذن المولى القدير.
Kommentare
Kommentar veröffentlichen
Vielen Dank für Ihren Kommentar.
Mohammed J. Almajhad