في يوم من الأيام – رحلتي مع ألمانيا 4



مرحباً بكم مجدداً قرائي الأعزاء وأرجو أنكم ما تزالون تكنون لأحرفي وقصتي بعض الاهتمام، وإني لأفرح بآرائكم ونقدكم ولا يهمني أكنتم واضحين أم تشدون على أسمائكم اللثام. 😊 

أكمل هنا بعض ما كنت قد تطرقت إليه سابقاً من مواقف وقصص، تلك التي تبين بجلاء أنه من الطبيعي جداً أن يرتكب الإنسان خلال تقدمه وتطوره سذاجات وجهالات في سبيل التعلم والتفقه والتنور، وخصوصاً من إنسان مثلي لا يحبذ سؤال الآخرين عن كل صغيرة وكبيرة؛ بل يحب أن يغامر ويجرب بنفسه أحياناً في حال انتفى وجود ضرر متوقع، ولا تزال تسبح في ذاكرتي كثير من الأمور التي عملتها في سفري الأول إلى ألمانيا وأجدها الآن تتربع في إرشيف الذكريات بسرور في قسم (الجهالة)، كذلك أبين في هذه التدوينة ما لاقيته من فرح وحبور ولو كان فيما يستصغر من أمور.

أذكر بجلاء تلك اللحظة الجميلة والمتألقة عندما كنت أتمشى في ليل أحد ظليم ذي سكون مكين في ميونخ وإذ بي أسمع صوتاً من بعيد ينادي علي: السلام عليكم! لم يكن سوى سائق حافلة عربي عرف من بعيد أنني مسلم فألقى إلي بالتحية، أذكر أولائك الشباب الناضح بالحيوية ممن ولد في ميونخ وهو يتحادثون معي بابتسام وكنت بالكاد أستطيع التجاوب معهم والسير خلف استعياب كلماتهم السريعة وهم يسرّون إلي بما يواجهون من متاعب وعنصرية...، لم أكن أظن أو أتخيل وقتها أنني سأعيش في محيط قريب وأجرب من نفس الكأس الآسن الحصيب؛ ألا وهو (العنصرية).

ذهبت في يوم جمعة إلى مقر شركة AG Linde للغازات الصناعية الرئيسي في ضاحية Pullach im Isartal لكي أزور صديقاً التقيته في مصنع الحديد في الجبيل سابقاً، في طريقي اكتشفت بمحض الصدفة أن المصنع يقع مقابلاً للمقر القديم للمخابرات الألمانية BND  -انتقل إلى برلين في عام 2014- مكثت أرمق لعدة دقائق مبنى المخابرات وكأن على رأسي الطير.


 زرت المصنع وتجولت في القسم الذي يهمني به وتغديت هناك، كان يوجد موظفة تونسية في مطعم الشركة دلتني مشكورة على طبق لذيذ من السمك، كنت أوضح لصديقي ومشرفه شغفي بتعلم اللغة عن طريق ترجمة لوحات السلامة في المصاعد وغيرها... وكانوا يقابلون ذلك بتشجيع على المواصلة والمثابرة، جلبت معي كاميرا جيدة وقتها لكن لم أخطط لالتقاط صورة شخصية تذكارية، بل إن بعض ما صورته لم يكن بصفاء جيد.

لم يكن لدي أدنى علم بأنه يمكن للمرء أن يلبس ملابس محافظة وفضفاضة كذلك أثناء سياحته ولا أعلم لماذا كانت أكثر ملابسي وقتها تتميز بروح رسمية وكأنني في وفد زيارة سياسية، كنت متحفظاً كثيراً في الحديث مع الآخرين ومتمترساً من وراء جدر واهية من الخجل، أذكر أنني واجهت صعوبة في الانطلاق في الكلام مع الآخرين وفي طلب طبق نباتي في مطعم قصر نوي شفان شتاين، كان هناك من مسلمون من أقطار الدنيا ممن لا تعلم عن إسلامهم سوى بالاسم، وهذا شيء لم أكن قد شاهدته قبل رحلتي هذه.  

اشتريت قطعة فنية جميلة من متجر قصر نوي شفان شتاين وأهديتها لاحقاً إلى جدتي الحبيبة حفظها الله، في مطار ميونخ وفي أثناء التفتيش سألني الموظف عما في حقيبتي المليئة بالتذكارات والهدايا من تركيا وألمانيا.... أجروا لي فحصاً شخصياً سريعاً، ولا يمكنك تقدير بهجتي الطفولية آنذاك بأنني فهمت كلمة: {umdrehen} بمعنى {استدر!} خلال تعلمي البسيط؛ طلب الموظف تفحص حقيبتي يدوياً وأبدى اهتماماً خاصاً بتلك القطعة، على عادة السعوديين في هكذا موقف: (تلزمك يا أبا فلان...!) تجرأت وحاولت إهدائها له وقتها؛ نظر إليّ مبتسماً وقال: (شكراً لك ولكن هذا غير ممكن)، كانت كل قسمات وجهي تعترف بأنني جاهل؛ فلا معنى في أن يسائلني ويستنطقني... 😊

رجعت بحمد لله إلى أرض الوطن وأهديت عائلتي وقصصت بعض ما رأيته ووجدته هناك، أهديتهم القطع الفنية واحتفظت بالكتب والعلم والتجارب، أكملت طريقي في التعلم والتحادث...، وبدأت أحلل الأمر بروية وتبصر أكثر وأتساءل:

هل يا ترى سيكون لي طريق أشقه ونصب نجاح أعمره في تلك الأرض النائية؟ هل يمر كل شيء على ما يرام أن وراء الأكمة ما ورائها؟ تساؤلات كثيرة...  

الكثير ممن عَلِم بأن لدي شيئاً من هذه الرغبة كان ينظر إلي وكأنني أحدثه عن شيء غير مجد البتة، فما المعنى من خوض غمار تجربة يحتاج فيها المرء إلى تعلم لسان والسباحة مع قروش وحيتان... أضحكني أحدهم ممن قام باسترجاع شيوعية ألمانيا الشرقية البائدة وحائط برلين...      

المهم أنني عقدت العزم أن أستمر في الطريق الذي رصدته إلى الهدف الذي خططته، لم تكن البدايات سهلة ولعلي لاحقاً أذكر لاحقاً قسطاً مما مر عليّ من أقدار وأحوال قبيل سفري الثاني والكبير.

دمتم دائماً يا أعزائي في حفظ العلي الكبير.

Kommentare